نقدم لكم هذا المقال القانوني بعنوان “الفرق بين التحكيم والقضاء ومتى يكون التحكيم الخيار الأفضل؟”، الذي يسلط الضوء على أحد المواضيع المهمة في مجال تسوية النزاعات القانونية. يناقش المقال الفروق الجوهرية بين التحكيم والقضاء، ويوضح الحالات التي يكون فيها التحكيم هو الخيار الأنسب، مستعرضًا الجوانب القانونية التي تؤثر على اختيار آلية الفصل في النزاعات وفقًا للنظام السعودي.
كتب هذا المقال الأستاذة ريناد بنت عبدالكريم السعدون – إدارة الشؤون القانونية، ليكون مرجعًا لكل من يسعى إلى فهم طبيعة التحكيم والقضاء، ومدى ملاءمة كل منهما لحل النزاعات القانونية، بما يحقق العدالة ويعزز كفاءة الإجراءات القانونية.
الفرق بين التحكيم والقضاء ومتى يكون التحكيم الخيار الأفضل؟
في ظل تسارع وتيرة الأنشطة التجارية والاستثمارية، باتت النزاعات القانونية أمرًا متوقعًا في بيئة الأعمال، ويثور التساؤل ما الوسيلة المثلى لحل هذه النزاعات؟ هل يُفضل اللجوء إلى القضاء أم التحكيم؟ يُعد التحكيم بديلاً فعالًا وسريعًا مقارنةً بالقضاء، إذ يتميز بالمرونة والسرعة في حسم النزاعات، في حين يوفّر القضاء رقابة قضائية شاملة، وحق التقاضي على درجتين. إلا أن لكل منهما مزاياه وخصائصه التي تجعله أكثر ملاءمة في سياقات معينة دون غيرها، وفي هذا المقال سنناقش الفرق بين التحكيم والقضاء، ونحدد الحالات التي يكون فيها التحكيم هو الخيار الأفضل، والحالات التي يكون فيها القضاء خيارًا أفضل وفقًا للنظام السعودي.
أولًا: الفرق بين التحكيم والقضاء
- القضاء: السلطة المختصة بالفصل في المنازعات بموجب الأنظمة المعمول بها في المملكة، حيث تُرفع القضايا أمام المحكمة المختصة وفقًا للاختصاص النوعي والمكاني، وتخضع إجراءاتها لأنظمة محددة، كنظام المرافعات الشرعية الصادر بالمرسوم الملكي رقم (م/1) بتاريخ 22/1/1435هـ، ونظام الإثبات الصادر بالمرسوم الملكي رقم (م/43) بتاريخ 26/5/1443هـ.
- التحكيم: نظام قضائي خاص، يختار فيه الأطراف المُحكمين، ويعهدون إليهم بمقتضى اتفاق مكتوب بمهمة تسوية المنازعات التي قد تنشأ أو نشأت بالفعل بينهم، بخصوص علاقاتهم التعاقدية أو غير التعاقدية التي يجوز حسمها بطريق التحكيم، وفقا لمقتضيات القانون والعدالة، وإصدار قرار قضائي ملزم لهم (سلامة، 2004، كما ورد في (علي، 2019).
ثانيًا: أوجه الشبه والاختلاف بين التحكيم والقضاء
يعد التقاضي الأكثر شيوعاً في طرقِ حلّ المنازعات؛ لأنه الأصل ويتفق مع التحكيم في أمور، ويختلف معه في أمور أخرى، فمن أهمِّ ما يتفقان فيه: (الشهراني، 2020)
1. لزوم الحكم، فكل من حكم المُحَكَّم وحكم القاضي لازم للخصمين.
2. وجوب التنفيذ، فكل من حُكْم المُحَكَّم وحُكْم القاضي واجب التنفيذ.
أما أبرز وجوه الاختلاف بين التحكيم والقضاء:
من حيث سلطة القاضي والمحكم:
- في القضاء لا يُشترط رضا الخصمين على القاضي، حيث يُعيَّن بأمر ملكي بناء على قرار من المجلس الأعلى للقضاء، ويتولى الفصل في النزاع تلقائيًا الامر الذي لا يترك للأشخاص حرية اختيار القاضي وتعيينه.
- أما في التحكيم، فلا يملك المُحَكَّم صلاحية الفصل إلا بموافقة الطرفين، حيث يتم اختياره بمحض إرادتهما لحل النزاع.
من حيث الجهة المخولة للفصل في النزاع:
- القضاء يُدار من قِبل الدولة أو السلطة المختصة، ولا يجوز لأي شخص أن يتولى القضاء بمبادرة شخصية.
- بينما يُعيَّن المُحَكَّم من قبل الأطراف المتنازعة.
من حيث نطاق الولاية:
- ولاية القضاء عامة، حيث يستمد القاضي سلطته من الدولة ويشمل حكمه جميع القضايا والأشخاص المتقدمين للتقاضي.
- أما التحكيم فهو ذو ولاية خاصة، تقتصر على النزاع المحدد الذي اتفق عليه الأطراف، ولا تمتد سلطته إلى قضايا أخرى.
من حيث الاختصاص المكاني:
- القضاء يتقيد بمسألة الاختصاص المكاني وفقًا لنظام المرافعات الشرعية.
- أما المُحَكَّم فلا يخضع لهذا القيد، حيث يمكنه الفصل في النزاع بغض النظر عن مكان إقامة الأطراف أو موقع القضية.
من حيث شروط التعيين:
- يشترط في القاضي توفر شروط معينة شرعية ونظامية.
- بينما في التحكيم، ليس من الضروري أن تتوفر في المُحَكَّم جميع شروط القاضي، إذ يمكن للأطراف اختيار أي شخص يثقون به لحل النزاع، حتى لو لم يكن مؤهلًا قضائيًا.
ثالثًا: متى يكون التحكيم خيارًا أفضل؟
على الرغم من تسارع إجراءات التقاضي في عصرنا الحالي وتزايد مرونتها بفضل التقاضي الإلكتروني، مما يجعله خيارًا فعالًا للعديد من النزاعات، إلا أن هناك حالات تبرز فيها مزايا التحكيم كخيار أكثر ملاءمة، ومن ذلك:
- العقود التجارية المعقدة ذات المسائل الفنية الدقيقة والمشاريع الدولية
في العقود ذات الطابع الدولي، مثل عقود الامتياز التجاري والشراكات الاستثمارية وعقود المقاولات الكبرى، حيث يكون التحكيم هو الخيار الأفضل نظرًا لحياديته ومرونته في اختيار القانون واجب التطبيق وسرعته في إصدار الأحكام، ومدى إمكانية تعيين محكمين متخصصين للفصل في النزاع بشكل فني دقيق؛ مما يُساهم في إنهاء النزاع بشكل فعال وسريع.
- الرغبة في السرية وحماية السمعة
نظرًا لأهمية سمعة التاجر وتأثيرها عليه وعلى أعماله، فإنه يتعين عليه أن يحرص على اختيار آلية مناسبة لحل النزاعات، لا سيما في القضايا المتعلقة بالشركات العائلية أو الملكية الفكرية. حيث يُعد التحكيم الخيار الأمثل في مثل هذه الحالات وذلك لسرية إجراءاته، على عكس القضاء الذي تُعقد جلساته بشكل علني وتنشر أحكامه تطبيقًا لذلك المبدأ، إلا في ظروف محددة.
- تقليل المدة الزمنية لحل النزاع
في عالم الأعمال والتجارة بشكلٍ عام السرعة عنصر في غاية الأهمية؛ حيث أن أي تأخير في تسوية النزاعات التجارية قد يؤدي إلى خسائر مالية كتعطيل العمليات، وإضعاف العلاقات بين الأطراف؛ ولهذا السبب يُعد التحكيم التجاري أحد الحلول الأكثر كفاءة، حيث يمنح الأطراف القدرة على التحكم في الجدول الزمني للإجراءات، بعيدًا عن التعقيدات والتأخيرات التي قد تواجههم في المحاكم؛ لأنه في بعض الحالات تمتد القضايا لسنوات بسبب تراكم القضايا في المحاكم، وتعقيدات الإجراءات، وهذا التأخير قد يعرّض الشركات لخسائر كبيرة، سواء بسبب تجميد العقود أو فقدان فرص استثمارية مهمة.
وعلى النقيض، قد لا يكون التحكيم الخيار الأنسب في بعض الحالات، مثل النزاعات التي تنشأ بين المؤسسات والشركات الصغيرة أو المتناهية الصغر، أو بين العامل وصاحب العمل بوضع بند التحكيم ضمن بنود العقد لتسوية النزاعات الناشئة عنه؛ وذلك نظرًا للتكلفة المادية المرتفعة التي قد لا تتناسب مع إمكانيات الأطراف المعنية، في مثل هذه الحالات يكون اللجوء إلى القضاء أو الوسائل البديلة الأخرى مثل الوساطة والتفاوض أكثر ملاءمة مع طبيعة النزاع وحجم المنشآت أو الأفراد المعنيين.
لذلك، يتعين على الأطراف والمختص في المقام الأول دراسة أوضاع المعنيين من الناحية القانونية والمالية بعناية قبل اختيار وسيلة تسوية النزاع، مع الأخذ في الاعتبار طبيعة النزاع، وحجم المنشآت، ومدى الحاجة إلى السرعة أو السرية أو التخصص الفني في الفصل فيه، لضمان تحقيق أفضل النتائج في الفصل بالنزاع وبأقل التكاليف.
ختامًا.. التحكيم والقضاء وسيلتان فعالتان لحل النزاعات، ولكل منهما مجالاته الملائمة بحسب طبيعة النزاع واحتياجات الأطراف، حيث يُعد التحكيم الخيار الأمثل في القضايا التجارية ذات الطابع الفني المعقد، أو عندما تكون السرية وسرعة الفصل في النزاع أمرًا ضروريًا، لذا فإن دراسة ظروف النزاع ومتطلبات الأطراف بعناية تُمكّنهم من اختيار الوسيلة الأنسب لتحقيق العدالة بأعلى كفاءة وأقل تكلفة.