بين روح العدالة واستقرار الأسرة قراءة أدبية في اللائحة التنفيذية لنظام الأحوال الشخصية

الأستاذ عزيز بن أحمد الأميري – إدارة الشؤون القانونية، يقدم لكم هذا المقال القانوني بعنوان “بين روح العدالة واستقرار الأسرة”، الذي يسلط الضوء على أحد المحاور الجوهرية في نظام الأحوال الشخصية، وأثره في تعزيز استقرار الأسرة والمجتمع.

يناقش المقال أبرز الجوانب القانونية المتعلقة بعقود الزواج، الولاية، النفقة، الحضانة، الطلاق، والإرث، ويستعرض كيف توازن اللائحة التنفيذية بين صرامة الأحكام وروح العدالة، بما يضمن حقوق جميع الأطراف دون إخلال بمبادئ الشريعة الإسلامية.

يهدف هذا المقال إلى أن يكون مرجعًا لكل من يسعى إلى فهم أعمق لنظام الأحوال الشخصية السعودي، بما يسهم في نشر الوعي القانوني، ودعم استقرار الأسرة كركيزة أساسية في بناء المجتمع

بين روح العدالة واستقرار الأسرة قراءة أدبية في اللائحة التنفيذية لنظام الأحوال الشخصية

في خضم التطورات القانونية المتسارعة التي تشهدها المملكة العربية السعودية، جاء نظام الأحوال الشخصية ليكون حجر الزاويةفي بناء مجتمع أكثر استقرارًا، يراعي التوازن الدقيق بين الحقوق والواجبات، ويصون كيان الأسرة باعتبارها اللبنة الأساسية للنسيج الاجتماعي. هذه الإصلاحات، التي لم تأتِ عبثًا، بل كانت ثمرة جهد دؤوب ورؤية ثاقبة، تسعى إلى تحقيق العدالة الناجزة دون الإخلال بثوابت الشريعة الإسلامية التي قامت عليها المملكة ، ومتى ما أمعنّا النظر في اللائحة التنفيذية لنظام الأحوال الشخصية، وجدناها ليست مجرد نصوص جامدة، بل مرآة تعكس فلسفة المجتمع ورؤيته للعلاقات التي تشكل نسيجه ، ففي عمق كل نظام قانوني يكمن نبض الإنسانية، حيث تتشابك الأحكام مع تفاصيل الحياة اليومية، فتشكل عقداً متيناً يربط بين الحقوق والواجبات، ويصوغ ملامح العلاقات الأسرية في ضوء العدالة. 

الزواج: ميثاق بالتراضي والعقل

حين يقترن شخصان في عقد الزواج، لا يكون الأمر مجرد ارتباط ، بل هو عهد يتطلب وضوحاً في الإرادة وصدقاً في القبول ، فلا يقف القانون عند حدود الصياغة الشكلية، بل يغوص في أعماق المعاني، ليضمن أن كل طرف يعي التزاماته، وأن الإيجاب والقبول يلتقيان في مجلس واحد، ولو كان ذلك عبر وسائل التقنية الحديثة.

وفي ظل هذه العناية، مما يُشترط في زواج من هم دون الثامنة عشرة عاماً اكتمال النضج الجسدي والعقلي، حفاظاً على براءتهم من قرارات قد تسبق أوانها. ولأن الحب وحده لا يكفي في موازين الحياة، فإن تقريراً طبياً واجتماعياً ونفسياً يصبح جسراً يضمن أن هذه الخطوة تسير على أرض صلبة.

أما في عالم تعددت فيه اللغات والجنسيات، فالقانون لم يغفل عن تعددية الثقافات، إذ يجيز توثيق عقد زواج غير المسلمين، ويسمح بأن يكون الإيجاب والقبول بلغة يفهمها الطرفان ، فالمعنى يسبق اللفظ، والغاية تسمو فوق الوسيلة.

الولاية: بين الحق والحرية

لا يخفى أن للولاية في الزواج دوراً أصيلاً ، لكنها لا ينبغي أن تكون سيفاً مسلطاً على المرأة ، يحول بينها وبين قرارها. لذا؛ إذا تعذر حضور الولي أو امتنع عن أداء دوره دون مسوغ شرعي، فالمحكمة تفتح أبوابها لتنصف المرأة، وتمكنها من المضي قدماً في حياتها وحتى إن غابت الأبوة، أو كان الأب مجهولاً، فإن يد العدالة تمتد لتعين من ينوب عن المرأة في زواجها، فلا تُترك وحيدة على مفترق الطرق.

وإذا ثبت العضل – أي منع المرأة من الزواج تعسفاً – فإن النظام لا يكتفي برفع الضرر عنها فقط، بل يمد الإنصاف إلى من يشاركنها في المعاناة من قريباتها، ليكسر بذلك قيود الظلم التي قد تحيط بالعائلة بأسرها.

النفقة والحضانة: حين تلتقي الرحمة بالمسؤولية

في تفاصيل الحياة الأسرية حين تتشابك الحقوق والواجبات، يظل حق المحضون – الطفل – هو الأولوية المطلقة في ميزان العدالة. فالنفقة لا تُمنح جزافاً، بل تُقدَّر وفقاً لما يحقق المصلحة، بحيث لا يُترك طفل بلا مأوى، ولا أم تكافح وحدها دون سند. فإن كان الحاضن يقيم في منزل مملوك، فلا يلزم الأب بتوفير أجرة سكن، لأن الغاية ليست إثقال كاهل أحد، بل تحقيق التوازن بين الحقوق والقدرة.

أما إذا تغيّر الحاضن، فإن النظام يضمن استمرار النفقة دون انقطاع، فلا يكون الطفل ضحية لصراعات لا ذنب له فيها. 

الطلاق وفسخ النكاح: حين يكون الفراق رحمة

ليس الزواج مجرد عقد يُبرم، بل هو ميثاق غليظ لا ينبغي أن يُفك إلا لضرورة. وإذا ما دب الشقاق بين الزوجين، فإن النظام لا يقف عند حدود الحكم بالفراق، بل يفتح المجال للحكمين للإصلاح، فإن تعذّر الصلح، نظر في الأمر بعين الحكمة، فيكون التفريق دون عوض إن كان الزوج هو المتسبب، أو بعوض كامل المهر المقبوض إن كانت أسباب الشقاق كلها من الزوجة ، أو بعوض  يتناسب مع درجة مسؤولية كل طرف عن النزاع ، أو التفريق بينهما على شطر المهر إن تعذر معرفة المتسبب في الشقاق.

وإذا كانت الزوجة تخشى ألا تؤدي حقوق الزوجية على الوجه الأكمل، وامتنع الزوج عن طلاقها ، كان لها الحق في طلب الفسخ،شريطة أن ترد إليه ما قبضته من مهر، حفاظاً للتوازن بين الحقوق.

الوصاية والإرث: حين تلتقي الحقوق بالمصير

بعد أن تطوى صفحات الحياة، يبقى الإرث شاهداً على عدالة التوزيع، فلا يحق لأي جهة احتجاز أموال المتوفى دون وجه حق. ولذا؛ يوجب النظام على الجهات المختصة تمكين الورثة من الاطلاع على ممتلكات مورثهم، وتسليمهم الوثائق التي تحفظ حقوقهم.

أما إذا كانت هناك وصية، فإن تنفيذها لا يكون خاضعاً للأهواء، بل تحكمه ضوابط تضمن تحقيق رغبة الموصي بما لا يخل بالنظام العام.

العدل والرحمة: ركنان في ميزان الأسرة

تبدو هذه اللائحة كلوحة قانونية مرسومة بريشة الإنصاف، حيث لا تطغى فيها سلطة الولي على حرية المرأة، ولا تُترك الحقوق للمساومة، ولا تُهمل مصلحة الطفل في صراعات الكبار. فبين أحكام الزواج والطلاق، وبين النفقة والحضانة، وبين الوصاية والإرث، نجد أن النظام يمزج بين الصرامة والمرونة، ليحفظ للأسرة استقرارها، وللمجتمع تماسكه، وللأفراد حقوقهم بلا إجحاف.

إنها مبادئ تنبض بالحياة، تذكّرنا بأن العدالة الحقة لا تكون في الأحكام وحدها، بل في كيفية تطبيقها، وفي الحرص على أن تظل الأسرة، مهما اشتدت العواصف، قائمة على أسس من الرحمة والعدل.

ختامًا: نحو مستقبل أكثر استقرارًا

إن نظام الأحوال الشخصية السعودي بلائحته التنفيذية لم يكن مجرد نصوصٌ تُكتب بالحبر، لكنها تحفظ الحقوق كما لو كُتبت بنور العدل. إنه انعكاسٌ لتحول حضاري يعكس رؤية المملكة في تمكين الأسرة، وتعزيز حقوق الأفراد، وضمان مجتمع أكثر تماسكًا. وإذا كانت القوانين مرآةً لروح العدالة، فإن هذه الإصلاحات جاءت لتعكس صورة مشرقة لمستقبل تُصان فيه الحقوق، وتُحترم فيه العقود، ويكون الاستقرار الأسري فيه هو القاعدة لا الاستثناء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top