التحرش في بيئة العمل

الأستاذ محمد بن حماد الحربي – إدارة الشؤون القانونية،

يقدم لكم هذا المقال القانوني بعنوان “التحرش في بيئة العمل: أطر نظامية لحماية الكرامة وتعزيز بيئة مهنية آمنة”، والذي يتناول أحد أبرز التحديات المعاصرة في بيئة العمل، ويستعرض الجهود النظامية المبذولة لحماية الأفراد من كافة أشكال الإساءة والانتهاك.

التحرش في بيئة العمل

في ظل التطورات الاجتماعية والتنظيمية المتسارعة، يُعد موضوع التحرش في بيئة العمل من القضايا الملحة التي تستوجب اهتمامًا جادًا من الأفراد والمؤسسات والمجتمع بأسره، ليس بهدف الدعم فحسب، بل لحماية الأفراد من كافة أشكال الانتهاك والإساءة. وقد أولت المملكة العربية السعودية هذا الموضوع اهتمامًا بالغًا من خلال إصدار نظام مكافحة جريمة التحرش بموجب المرسوم الملكي رقم (م/96) وتاريخ 16/9/1439هـ، الذي جاء ليضع حداً للأفعال المخلة بالكرامة الإنسانية، ويضمن حماية العاملين والعاملات في بيئات العمل من أي ممارسة تؤثر سلبًا على سلامتهم النفسية والاجتماعية والمهنية.

يهدف هذا المقال إلى تسليط الضوء على أبرز الجوانب النظامية المتعلقة بجريمة التحرش في بيئة العمل، من خلال بيان تعريف التحرش كما ورد في النظام، وتوضيح التزامات أصحاب العمل في الوقاية والعلاج، وتحديد العقوبات النظامية المقررة، وآليات الإبلاغ الفعّالة التي تضمن الحفاظ على حقوق الضحايا. يأتي هذا الطرح في سياق نهج شامل لا يقتصر على دعم بيئة العمل فحسب، بل يمتد إلى حماية الأفراد وتأمين بيئة يسودها الاحترام والعدالة، مما يسهم في بناء ثقافة مؤسسية راسخة تحمي كرامة كل موظف وتدعم استقرار وإنتاجية المؤسسات

وانطلاقًا من هذا التوجه، جاء نظام مكافحة جريمة التحرش ليُشكّل إطارًا قانونيًا متكاملًا يستند إلى مبادئ واضحة تهدف إلى التصدي للجريمة قبل وقوعها، والتعامل الحازم معها بعد وقوعها. حيث يرتكز هذا النظام على مبدأين أساسيين: الوقاية قبل وقوع الجريمة، والحماية والمعاقبة بعد وقوعها. وهو بذلك لا يكتفي بتجريم السلوك فحسب، بل يُحمّل أصحاب العمل مسؤولية مباشرة في توفير بيئة خالية من المضايقات، وضمان وصول الضحية إلى حقها القانوني دون تردد أو خوف

تعريف التحرش:

حرص المنظم على تحديد معنى التحرش بدقة لرفع الوعي بخطورته، حيث عرف نظام مكافحة جريمة التحرش في المادة الأولى التحرش بأنه: “كل قول أو فعل أو إشارة ذات مدلول جنسي، تصدر من شخص تجاه أي شخص آخر، تمس جسده أو عرضه، أو تخدش حياءه، بأي وسيلة كانت، بما في ذلك وسائل التقنية الحديثة”. هذا التعريف القانوني الشامل يعني أن أي كلمة غير لائقة، أو حركة مشينة، أو لمس غير مرغوب ذو طبيعة جنسية، سواء حدثت بشكل مباشر أو عبر وسائل التواصل الإلكتروني، تعتبر جريمة تحرش. ويؤكد التعريف أن المعيار هو تأثير الفعل على المجني عليه؛ فكل ما يمس الجسد أو العرض أو يخدش الحياء يدخل ضمن التحرش بغض النظر عن وسيلة ارتكابه. بهذا، يكون الموظفون على دراية بأن كل سلوك أو تعليق غير ملائم وذا طبيعة جنسية هو مجرَّم صراحة في النظام.


التزامات أصحاب العمل في توفير بيئة عمل آمنة:

أصحاب العمل في أماكن العمل يتحملون دورًا أساسيًا في الوقاية من التحرش قبل حدوثه. أوجب المنظم في المادة الخامسة على الجهات المعنية في كلٍ من القطاع الحكومي والأهلي اتخاذ تدابير واضحة لمنع التحرش ومكافحته ضمن بيئة العمل. ومن أهم هذه التدابير التي يجب على صاحب العمل توفيرها:

• وضع سياسة وآلية داخلية لتلقي الشكاوى: يتعين أن توجد قناة واضحة وآمنة يستطيع من خلالها الموظف تقديم شكوى أو بلاغ عن أي تصرف تحرش يتعرض له داخل العمل. هذه الآلية قد تكون عبر قسم الموارد البشرية أو خط داخلي أو صندوق بريد إلكتروني مخصص، المهم أن تكون سهلة الوصول وسرية.

• إجراءات للتحقق وحفظ السرية: على الجهة التأكد من مصداقية الشكاوى بشكل عاجل وعادل، مع الحفاظ على سرية المعلومات لحماية جميع الأطراف. السرية هنا تهدف لحماية المبلغين والضحايا من الانتقام أو التشهير، وتشجع الآخرين على الإبلاغ دون خوف.

• توعية الموظفين بسياسة مكافحة التحرش: يجب نشر هذه التدابير والسياسات داخليًا وتعريف جميع الموظفين بها. قد يكون ذلك عبر دورات تدريبية، أو لوائح تُعلق في أماكن ظاهرة، أو عبر دليل للموظف. فكل فرد في المؤسسة ينبغي أن يعرف أن التحرش ممنوع تمامًا، ويعرف أيضًا كيفية التصرف وتقديم شكوى إذا تعرض له.

إضافة إلى ما سبق، فإن للجهات مساءلة ومحاسبة أي موظف يرتكب جريمة التحرش تأديبيًا داخل نطاق العمل. هذا يعني تطبيق عقوبات إدارية داخلية (مثل الإنذار، أو الفصل من العمل في الحالات الجسيمة) بحق المتحرش، بجانب العقوبات الجنائية التي توقعها الجهات المختصة. هذه الإجراءات مجتمعة تهدف إلى خلق بيئة عمل آمنة يشعر فيها الجميع بالاحترام والطمأنينة، وإلى تحجيم أي ثقافة صمت قد تمكن المتحرش من الإفلات بفعلته. فالموظف حين يرى أن مؤسسته صارمة في منع التحرش ستزداد ثقته بمكان العمل وينعكس ذلك إيجابًا على إنتاجيته وانتمائه.

العقوبات المنصوص عليها في نظام مكافحة التحرش:

بيّن المنظم في نظام مكافحة التحرش أهمية حماية بيئة العمل تحديدًا، إذ يجب أن تكون مكانًا آمنًا يحافظ على كرامة الموظفين وثقتهم، ولا يُعتبر كأي مكان عام. لذلك فقد بَيَّن النظام أن حالات التحرش داخل بيئة العمل تُصنَّف من العقوبات المشددة، إذ يُعتَبَر وقوع الاعتداء في مكان العمل خرقًا صارخًا للأمان والثقة التي يُفترض أن يوفرها صاحب العمل، فيُعدّ التحرش داخل مقر العمل من أخطر أشكال الانتهاك، فهو لا يلحق الضرر فقط بالضحية فرديًا، بل يُقوض بيئة العمل بأكملها، مما يؤدي إلى فقدان الثقة والإنتاجية.

تجدر الإشارة إلى أن المنظم ينص على عقوبة أساسية لمعظم حالات التحرش، وهي:

• السجن لمدة تصل إلى سنتين

• وغرامة تصل إلى 100 ألف ريال

• أو بإحدى هاتين العقوبتين.

لكن في حالات وقوع التحرش في بيئة العمل أو في حالة استغلال السلطة، تُصنَّف هذه الحالات ضمن الظروف المشددة التي تستدعي عقوبات أشد، تصل إلى:

• السجن لمدة خمس سنوات

• وغرامة تصل إلى 300 ألف ريال

• أو بإحدى هاتين العقوبتين.

يُعتبر ذلك دليلاً على حرص المنظم على حماية بيئة العمل؛ حيث تُعد التصرفات في هذه البيئة أكثر تأثيرًا وتترك آثارًا سلبية على الأفراد والمؤسسة ككل. ويا يا للأسف، يخلط البعض بين العقوبة الأساسية والعقوبات المشددة، متجاهلين أن التحرش داخل بيئة العمل لا يُعتبر مجرد تحرش بمفهومه العام وحسب، بل يُعد تعديًا يتطلب رداً حازمًا لحماية حقوق الموظفين وضمان بيئة عمل آمنة ومثمرة.

يتبين لنا من ذلك أن المنظم قد صاغ نظامه بعناية ليُخاطب الواقع العملي بشكل جاد، مؤكداً أن التحرش في بيئة العمل لا يُتسامح فيه بأي حال، وفي نفس الوقت يساهم في خلق مناخ يحمي حقوق الأفراد ويعزز الإنتاجية والثقة داخل أماكن العمل، وجدير بالذكر أن العقوبات في النظام تتضمن أيضًا إمكانية نشر ملخص الحكم على نفقة المحكوم عليه في الصحف المحلية بعد اكتسابه الصفة النهائية، بهدف ردع الآخرين والتشهير بمن يرتكب هذه الأفعال المشينة.


آلية الإبلاغ عن التحرش والجهات المختصة:

الإبلاغ عن حالات التحرش واجب على كل من يتعرض لها أو يشهدها. فقد أكّد النظام في نص صريح أن: “لكل من اطلع على حالة تحرش إبلاغ الجهات المختصة”. وهذا يعني أن المسؤولية لا تقع على عاتق الضحية فقط، بل تمتد لكل من يشهد الواقعة داخل بيئة العمل، سواء كان زميلًا أو مسؤولًا، حمايةً للضحية ومنعًا لتمادي المتحرش.

الجهات المختصة بتلقي البلاغات:

• الجهات الأمنية (الشرطة) عبر الرقمين (999) أو (911) في مناطق الرياض ومكة المكرمة والشرقية 

• تطبيق “كلنا أمن” للإبلاغ الإلكتروني

• التوجه إلى أقرب مركز شرطة 

أما داخل بيئة العمل نفسها، فيلتزم صاحب العمل – بحسب المادة الخامسة من نظام مكافحة التحرش – بإنشاء آلية داخلية لتلقي الشكاوى والتحقق منها بشكل مهني وسري. ومع ذلك، فإن استخدام الآلية الداخلية لا يلغي حق الضحية في التوجه إلى الجهات الحكومية المختصة. كما أوجب النظام في مادته الرابعة الحفاظ على سرية المعلومات والهوية، بحيث لا يُفصح عن اسم المجني عليه إلا عند الضرورة القانونية أثناء التحقيق أو المحاكمة، وهذا ما يشجع الضحايا والمبلغين على الإبلاغ دون خوف من التشهير أو الانتقام. وفي هذا السياق، تبرز الإحصاءات الرسمية أهمية التبليغ كوسيلة فعّالة لمواجهة الجريمة؛ حيث سجلت المحاكم السعودية في عام 2018م فقط 708 قضية تحرش خلال ثمانية أشهر، وفق ما أعلنته وزارة العدل. هذه الأرقام تعكس من جهة حجم الظاهرة، ومن جهة أخرى استجابة قوية من الضحايا والمجتمع في الإبلاغ، مما ساعد الجهات العدلية على إصدار أحكام رادعة ضد الجناة. لذا، فإن الإبلاغ عن التحرش لا يُعد خيارًا فرديًا فقط، بل هو ضرورة لحماية النفس والغير، وتحقيق بيئة عمل يسودها الاحترام والكرامة.

البلاغات الكيدية والادعاءات الزائفة:

ورغم أهمية التبليغ، إلا أن النظام لم يغفل عن خطورة الاستغلال السيئ له، فبيّن في المادة السابعة أن كل من يقدم بلاغًا كيديًا أو يدّعي كذبًا أنه تعرض للتحرش، يُعاقب بالعقوبة ذاتها المقررة لجريمة التحرش، وهي:

• السجن لمدة تصل إلى سنتين

• و/أو غرامة تصل إلى 100 ألف ريال

وفي حال اقترن الادعاء الكيدي بظرف مشدد (مثل الإساءة لشخص في منصب حساس أو أثناء أزمات)، فقد تصل العقوبة إلى:

• السجن خمس سنوات

• و/أو غرامة 300 ألف ريال

فمثلا لو تقدمت موظفة بشكوى إلى مدير الموارد البشرية تتهم فيها زميلًا بالتحرش، مدعية أنه وجّه لها عبارة ذات طابع جنسي في اجتماع داخلي، وبعد التحقيق الداخلي والتثبت من كاميرات القاعة وسماع إفادات الحضور، تبيّن أن الحادثة مختلقة بالكامل، وأن البلاغ قُدم بقصد الإضرار بالسمعة وتصفية خلافات شخصية. في هذه الحالة، تُطبق عليها عقوبة البلاغ الكيدي المنصوص عليها في النظام، تمامًا كما لو أنها ارتكبت جريمة التحرش بنفسها.

فالإبلاغ مسؤولية.. والكذب جريمة لذلك، فإن الإبلاغ عن التحرش لا يُعد فقط حقًا، بل واجبًا أخلاقيًا وقانونيًا، ويجب أن يكون مبنيًا على الصدق وحسن النية. فكما يحمي النظام الضحية، فإنه لا يتساهل مع من يسعى لتشويه سمعة الأبرياء أو استخدام النظام لتحقيق أغراض شخصية.

رسالة ختامية:

تجسّد المعالجة النظامية لجريمة التحرش في بيئة العمل رؤية المملكة العربية السعودية في تعزيز الكرامة الإنسانية، وترسيخ بيئة مهنية قائمة على الاحترام والعدالة. ومن خلال نظامٍ دقيق يشمل التعريف، والتدابير الوقائية، والعقوبات الرادعة، وآليات الإبلاغ، تُظهر المملكة التزامها الحازم بحماية الأفراد ودعم استقرار المؤسسات. فهذه المنظومة ليست مجرد إطار قانوني، بل انعكاس لقيم إسلامية أصيلة ومبادئ حضارية راسخة.

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده” [رواه البخاري ومسلم]، فإذا ساد هذا الخُلق في بيئة العمل، صارت بيئة آمنة تُحترم فيها الحقوق، ويُثمر فيها الأداء، وتزدهر فيها المؤسسات.

إن النظام لا يتسامح مع جريمة التحرش، ولا يقبل بأي صورة من صور التعدي أو الإخلال بالكرامة، كائنًا من كان مرتكبها؛ فحماية الإنسان في المملكة مبدأ لا يُساوَم عليه، وكرامة العامل ليست محل نقاش، بل هي خط أحمر تصونه الأنظمة وتدافع عنه الدولة بكل حزم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top